درس الغير

درس الغير


يندرج مفهوم الغير كبعد أساسي من أبعاد الوجود البشري انطولوجيا, و معرفيا, و أخلاقيا ضمن مجزوءة الوضع البشري التي تتميز بالترابط و التداخل بين مفاهيمها, والغير كإشكالية فلسفية لم تظهر إلا في وقت متأخر نسبيا و بخاصة مع فلسفة هيجل,هاته المشكلة التي وجدت انطلاقتها من كون الغير ذاتا تشبهني وتختلف عني في نفس الآن, ومن كونه ضروريا لوجودي بصفتي وعيا. و التي يمكن التعبير عنها من خلال التساؤلات الآتية:
ما الغير؟ و كيف يمكنني إدراك الغير؟ هل أدركه بوصفه شيئا أم بوصفه أنا أخر؟هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟و ما العلاقة التي تربطني به؟هل هي علاقة تكامل و اندماج أم علاقة تنافر وتباعد؟
أول إشكال سنبدأ بتحليله هو إشكال ما الغير؟ لأنه يعتبر الممر الضروري لتناول الإشكالات الأخرى: فالغير هو الشبيه للأنا و المختلف عنه في نفس الوقت, إنه شبيهي من حيث هو يشاطرني كثيرا من الصفات (الفيزيولوجية, النفسية, السلوكية ...) لكنه لا يفتأ يؤكد اختلافه عني في مؤهلاته و اختياراته ورغباته و مشاريعه... تقع هذه الازدواجية(الشبيه – المختلف) في صلب أغلب الإشكالات الفلسفية للغير, فقد عرف سارتر الأخر بأنه" الأنا الذي ليس أنا" أي تلك الذات و الوعي المنفصل و المتميز عن ذاتي ووعي. إذن فما الذي يشكله وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟.
الغير ليس شيئا من أشياء العالم الخارجي فاقدا للوعي و الحرية مثل الطاولة بل هو وجود أنا أخرى مماثل لأناي, لكنه مستقل عنها. و لما كانت الحرية هي ما يمثل هوية وجوهر الإنسان حسب التصور الوجودي الذي يمثله الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر فإن وجود الغير إلى جانب الأنا وجود مزدوج:
وجود سلبي : فالغير يحد من حرية الأنا ومن عفويتها ويولد الخجل من خلال النظرة التشييئية, فقبل أن يدخل الغير إلى المجال الإدراكي للأنا يكون تصرف هدا الاخير بحرية و تلقائية, إنه مركز عالمه الداخلي و ما أن يحس الأنا بوجود الغير من خلال نظرته حتى تتجمد حريته و عفويته (التوتر-الارتباك). فالغير يؤول سلوكي ويعطيه معنى قد لا يكون هو المعنى نفسه الذي أقصده و بدلك أسقط تحت رحمته و سلطته .
ووجود إيجابي: يكمن في كون الغير يمكن الأنا من إدراك وجوده, فهو بمثابة الوسيط الضروري بين الأنا و الأنا ذاته, فبين الغير و الأنا صراع, و لكنه ضروري من اجل أن تحقق الأنا وعيا بذاتها باعتبارها ذاتا حرة متعالية.
وفي نفس السياق نجد المقاربة الهيجيلية تذهب إلى أن وجود الغير ووعيه ضروري لوجود الأنا ووعيه, فكل أنا لا تتعرف على ذاتها إلا من خلال أنا أخرى تتوسط بين الأنا و الأنا ذاته, و لعل ما يؤكد هدا التصور ( ضرورة وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا) هو الحالة التي وجد عليها الطفل المتوحش الذي لم يستطع التعرف على نفسه في المرآة , أو القدرة على الإحساس بالخجل أو الفخر, بسبب افتقاده إلى للعلاقة مع الغير طيلة طفولته.
على عكس ما ذهب إليه هيجل و سارتر من أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا من حيث هو يحقق للأنا وعيها بذاتها و بالعالم المحيط , فإن الفيلسوف الألماني هيدجر , يعتبر أن الوجود مع الغير يفرغ الذات من إمكاناتها وتفردها , و يمحو التمايزات و الاختلافات, ويعمل على خلق ذوات متشابهة من خلال فرض وضعية اللامبالاة و اللاتمايز فيصبح الفرد يشبه جميع الناس, تابع لإرادة الجماعة ينفد ما أريد منه, وهكذا يفقد الأنا خصوصيته و إرادته و اختلافه من خلال تواجده مع الغير.
و إدا كانت قضية وجود الغير خلقت مواقف متناقضة , فإن إشكالية معرفة الغير هي بدورها شكلت محطة لتضارب الآراء.
معرفة الغير ممكنة من وجهة نظر الفيلسوف إدموند هوسرل , فالغير يمكن التعرف عليه لا بوصفه موضوعا يشبه أشياء الطبيعة و لا بوصفه ذاتا تشبهني لأن هذا الإدراك لا يتعدى كل ذات مفردة ,على اعتبار أن كل أنا تشكل ظاهرة للعالم , بل بوصفه ذاتا تشبهني و تختلف عني في نفس الوقت, ووسيلة التعارف بين الأنا و الغير تكمن في مجال عالم التجارب أو الخبرات المشتركة أو ما يسميه هوسرل بعالم البينذاتية الذي يرتكز على التوافق الباطني أو التوحد الحدسي كآلية للتعارف.
و في نفس السياق نجد موريس مرلونبونتي يعتبر معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل معه و الاعتراف به و الحفاظ على خصوصيته كغير مختلف, مع احتضانه و التعايش معه من خلال المشاركة الوجدانية , مما تتيح للأنا قياس ما يظهر على الغير من سلوكات أو أقوال على الذات و بالتالي الوصول إلى معرفة يقينية بالغير.
وعلى عكس ما ذهب إليه هوسرل و مرلونبونتي من إيجابية في إجابة على إشكال هل معرفة الغير ممكنة؟. نجد الفيلسوف والسلوكي الفرنسي غاستون بيرجي يعتبر أن معرفة الغير غير ممكنة, لأن تجربته هي تجربة أنا منعزلة في العالم و غير قابلة لأن تدرك من طرف الغير , فبين الأنا و الغير جدار سميك و سياج مغلق لا يمكن تجاوزه , فمعرفة الغير من خلال الأنا شيء مستحيل لأن لكل منهما عالمه الخاص. و في الإطار نفسه , انطلق مالبرانش من مسلمة أن الحقيقة أمر نسبي و أن التماثل و التشابه بين إحساسات الأنا و إحساسات الغير غير ممكن, الشيء الذي ينفي فرصة التعرف على الغير.
فهل يمكن و الحال هاته أن نعلن استحالة معرفة الغير و أن نجعل من الذوات جزرا و قلاعا حصينة ومغلقة؟
يرفض ماكس شيلر القول باستحالة معرفة الغير, و يرى أن مثل هدا التوجه الفلسفي يتأسس على منطلقات ميتافيزيقية واهية, وهي تقسيم الوجود الإنساني إلى ثنائية( نفس – جسد, ظاهر- باطن) و الحقيقة أن الغير كلية غير قابلة لأن تجزأ ولا يحيل فيه ظاهر مادي على باطن نفسي, أو وجود عميق مستحيل المنال, بل إن حقيقة الغير تتجسد فيه كما يظهر للأنا . إن حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لدلالتها مباشرة كما تظهر.
إن علاقة الأنا بالغير تتجاوز المستويات المعرفية و الأنطولوجية إلى مستويات أخرى لا تقل أهمية, كالجانب الأخلاقي العلائقي بين الأنا و الغير , ولما كان الإنسان مدني بطبعه أي يميل إلى الاجتماع بالآخرين و معهم, قصد بناء مجتمع إنساني يحقق السعادة و الفضيلة لأفراده, يبرز أرسطو الأساس الذي تقوم عليه علاقة الإنسان بالآخرين , فالإنسان مهما كان سنه, و مهما كانت مرتبته الاجتماعية, هو دائما في حاجة إلى الأصدقاء, لذلك فماهية العلاقة التي تربط الإنسان بالآخرين, إنما هي الصداقة التي تتأسس في الوقت نفسه على المنفعة و المتعة و الفضيلة.
هذا التوجه الذي ينظر إلى العلاقة بين الأنا و الغير بوصفها علاقة إيجابية سيجد له دعما قويا من طرف الفيلسوف الألماني - رائد التوجه النقدي- إمانويل كانط , الذي يرى أن العلاقة بين الأنا و الغير يجب أن تتأسس على مبادئ أخلاقية و عقلية و ذاتية وكونية.فالصداقة كنموذج مثالي للعلاقة بين الأنا و الغير تجمعهما من خلال مشاعر الحب و مشاعر الاحترام لأن كل طرف يتصرف وفق الواجب الأخلاقي الذي يفرض احترام الذات و احترام الغير . أي احترام الإنسانية جمعاء, احترام الشبيه و المختلف مما ينتج عنه احترام الخصوصيات الثقافية لكل جماعة بشرية و الهوية الشخصية, في إطار من المشاركة و التضامن, يضمن للجميع حقوقه وكرامته باعتبار أنه غاية في ذاته و ليس وسيلة في يد غيره.
الإنسان على وجه الخصوص لا يعيش فقط من أجل ذاته وحدها بل هو يعيش من أجل غيره كذلك (الآباء- الأبناءالأصدقاء) يعني تجاه غيرية معينة كما سماها اوغست كونت , أي تجاه مصلحة عامة و مشتركة , فالغيرية تضع الوجود الإنساني الكوني أولى من المصلحة الفردية لأنها تحقق قيمة مثلى و غاية إنسانية يتخلى بموجبها الأفراد عن أنانيتهم و مصالحهم و شهواتهم من اجل مصلحة عامة مشتركة.
و في الأخير نؤكد أنه مهما تعددت و اختلفت التصورات التي قاربت إشكاليات الغير, فإن هدا الأخير هو ما يمنح للانا (الشخص) هويته و قيمته و إنسانيته, ومن تم فبين الأنا( الشخص) و الغير ليس فحسب علاقة أنطولوجية بل ومعرفية و أخلاقية و علائقية واقتصادية و ثقافية... بمعنى الغير يحضر في كل ثنايا الذات في الفكر و في الجسد و في الوجدان , ومنه لا يمكن تناول مفهوم الغير أو الشخص كمفهوم منغلق و مستقل بذاته لأن بينهما حركة و انفتاح وتوجه وتفاعل دائم ضمن زمن(التاريخ) محدد, فبدون الزمن أو التاريخ يستحيل التعارف أو الوجود أو إنشاء علاقات بين الأنا و الغير.

منقووول للإفادة